الدين الذي في ذمة من هو قادر على الوفاء يزكى؛ لأنه بمنزلة الأمانة عنده، ويقدر صاحبه أن يأخذه ويتحصل عليه متى طلبه، وأما الدين الذي عند معسر أو مماطل ولو كان غنيا، فإن صاحبه لا يقدر على الحصول عليه، ولو طالبه قد يدعي الإعسار والفقر، فمثل هذا المال كالمعدوم، فلا زكاة عليه إلا إذا قبضه إن المسلم الملتزم بدين الله ، والذي سار على صراط الله المستقيم ، سيجد دعاة الضلال والانحراف؛ وهم واقفون على جانبي الطريق، فإن أنصت لهم والتفت إليهم عاقوه عن السير، وفاته شيء كثير من الأعمال الصالحة. أما إذا لم يلتفت إليهم؛ بل وجه وجهته إلى الله فهنيئا له الوصول إلى صراط ربه المستقيم الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف إن غسل أعضاء الوضوء في اليوم خمس مرات دليل على أن الإسلام جاء بما ينشط البدن وينظفه، كما جاء بما يطهر الروح ويزكيها. فهو دين الطهارة الحسية والمعنوية. شريعة الإسلام شريعة واسعة كاملة، اشتملت على كل ما تمس إليه حاجة البشر، حاجة الذكور والإناث في الدنيا وفي الآخرة، فذكر الله تعالى نساء الدنيا وجعل لهن أحكاما، وذكر النساء في الآخرة وذكر ثوابهن كثواب الرجال المؤمنين، وفي هذا تمام العدل والحكمة اللسان أمانة،استودعه الله عندنا وأمرنا بأن نستعمله في الذكر وفي العلم وفي التعليم وفي النصيحة وما أشبه ذلك، ولا نستعمله في غيبة ونميمة ولا في هجاء ولا في عيب وقذف وهمز ولمز وما أشبه ذلك. وهكذا بقية الجوارح أمانات داخلة في قول الله تعالى: (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون) .
شرح كتاب الحسبة لشيخ الإسلام ابن تيمية
24383 مشاهدة
عظم أجر المحتسب

موضوع الحسبة: في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكذلك الاحتساب في الولايات التي يتولاها المسلم، ويقصد بها نفع المسلمين فيدخل في ذلك كل ولاية دينية يقصد منها نفع الإسلام وأهله، ولكن إذا كان موظفا حكوميا يتقاضى على ذلك مرتبا ورزقا كان عمله آكد وكانت مسئوليته أكبر، فإذا كان محتسبا فالغالب أن نفعه يكون أكثر كما أن أجره يكون أعظم؛ إذا احتسب الإنسان مثلا بالتعلم أو بالتعليم كان نفعه أكثر وأجره أكثر إذا احتسب الإنسان بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتطوع لله في ذلك كان عمله خالصا لله وكان الأجر عليه أكثر.
وذلك لأن الذي لا يكون كذلك يخشى أن يكون عمله لغرض دنيوي فيفسد عليه قصده ونيته، كذلك أيضا إذا احتسب وجاهد في سبيل الله بدون أن يأخذ على ذلك رزقا أو يأخذ على ذلك جراية أو نفقة كان أجره أكبر إذا كانت نيته صالحة، كما سمعنا في الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الرجل يجاهد حمية ويجاهد للمغنم ويجاهد رياء أي ذلك في سبيل الله؟ فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله فهذا هو المحتسب الذي قاتل في سبيل الله لا لدنيا، ولكن للدين طلب الأجر من الله لتكون كلمة الله هي العليا ودينه هو الظاهر.
ويقال كذلك فيمن سعى في الإصلاح بين الناس يقال هذا محتسب؛ حيث إنه يسعى في إصلاح المجتمعات ويصلح بينهم عندما يكون هناك شقاق أو نزاع أو نحو ذلك، ويقال كذلك في المحتسب الذي ينصح العصاة ويردهم إلى الصواب؛ إذا رأى مثلا من يترك الصلاة نصحه إذا رأى من يشرب الدخان، إذا رأى من يحلق اللحية مثلا أو يسبل الثياب، إذا رأى من يتعاطى مسكرا إذا رأى من يسبل ثيابه ونحو ذلك، كذلك جميع المعاصي فيأتي إلى هذا ويقول: سمعت أنك هاجر أخاك، سمعت أنك قاطع رحمك، سمعت أنك عاق لأبويك ولأقاربك وما أشبه ذلك، فاحتسابه ونصحه ودعوته تعتبر من الأجر الكبير مما يترتب عليه الأجر. كذلك أيضا احتسابه في الدعوة إلى الطاعات؛ الدعوة إلى العبادات وإلى الصلوات وإلى النفقات في وجوه الخير وما إلى ذلك، كل ذلك إذا احتسب الأجر فإن الله تعالى يثيبه على ذلك ثوابا عظيما.
أما الذي يقتصر على نفسه، ويقول: لست مسئولا ولست مكلفا والأمر قد وكل إلى غيري وهناك من وكل إليه القضاء، وهناك من وكل إليهم الإصلاح، وهناك من وكلت إليهم الدعوة، هناك من وكل إليهم التعليم وما إلى ذلك؛ فيرى المعاصي وأهلها ولا يدعو إلى تركها ولا يأمر بتركها ويرى المنكرات ويرى ترك الطاعات، نقول: إن هذا بلا شك قد ترك شيئا حقا عليه ولو لم يكن فرضا لكن فاته الاحتساب فاته الأجر الذي يترتب عليه، فإن من فعل ذلك محتسبا حصل له أجر وأما من فعله كأداء وظيفة فإن أجره تعجله وهو ما أخذه مقابل عمله من الحطام ومن الأجرة الدنيوية.
ففرق بين المحتسب الذي يفعل هذه الأعمال طواعية لله وطلبا للأجر، وبين غير ذلك ممن يفعله طلبا لما عند الله تعالى، فهذا هو موضوع هذه الرسالة ويأتينا تفصيلها في مواضع إن شاء الله في الولايات وما يجب على كل وال في عمله الذي ولي إليه.